الوضع المظلم
الثلاثاء ١٤ / مايو / ٢٠٢٤
Logo
روسيا و
 شيار خليل

لا قتال عنيف على حدود روسيا مع أوكرانيا، بالتزامن مع الحرب الإعلامية والتصريحات الدولية المتبادلة حول الحدث الذي يشغل العالم الآن، وسط مستويات متفاوتة من الدعاية والتضليل والمحاولات الاستراتيجية للسيطرة على الأحداث، كلٌ من طرفه، إذاً هي حالة من الضباب التي تسبق الحرب وتمهّد الطريق لما لا نعرفه، أو لما يسمى بالتحديد "العلم الزائف"، ما يفترض أن يؤخذ بعين الاعتبار في الجغرافيا السياسية بالعصر الحديث.

"العلم الزائف" هو مصطلح عسكري سياسي، يشار به إلى أية عملية سرية، يقوم بها طرف ليلقي باللوم على طرف آخر؛ وبالتالي يمهد الطريق لأي رد فعل من جانب الطرف صاحب عملية العَلم الزائف، والهدف منه خلق أخبار وقصص تلهي الجمهور بالتزامن مع دفعه للتضامن أو العكس. نشأ مصطلح "العلم الزائف" في القرن السادس عشر كتعبير مجازي بحت يعني أنه "تحريف متعمد لانتماء شخص ما أو لدوافعه"، وقد استخدمت فيما بعد لوصف حيلة في الحرب البحرية، فرفعت بموجبها سفينة علم بلد محايد أو عدو من أجل إخفاء هويته الحقيقية.

تاريخياً، تعدّ أحد أشهر أحداث "العلم الزائف" تلك التي وقعت في الليلة التي سبقت غزو ألمانيا لبولندا. وقتها تظاهر سبعة جنود ألمان من القوات الخاصة بأنهم بولنديون واقتحموا برج راديو غليفيتز على الجانب الألماني من الحدود مع بولندا، وقاموا ببثّ رسالة قصيرة يقولون فيها إن الإذاعة الآن تحت سيطرة البولنديين. وبالطبع كان مثل هذا الحدث الصغير والبسيط في سياق الحرب العالمية خسارة كبيرة، وحدث يمكن أن يبنى عليه قصص سياسية أعمق.

إلا أنه وفي السنوات الأخيرة تغيرت أساليب وطرق استخدام "العلم الزائف" في الحروب بالمنطقة، اعتمد على ذلك النظام السوري، حليف روسيا، حيث بُثّت أخبار وهمية وكاذبة لنشر الزعر بين السوريين، بالتزامن مع تدمير قرى وأحياء كاملة بعيدة عن شاشات الإعلام، كما استخدمت الجماعات الإسلامية المدفوعة من قبل النظام السوري أساليب "العلم الزائف" لرفع المسؤولية عن جرائم الأسد في عدة أحداث وقعت في سوريا.

الآن وما نراه في الأزمة الدائرة بأوروبا الشرقية يقع تحت ذلك البند، فكل الأطراف تتهم بعضها البعض، بنفس الطرق والأساليب. والواقع هنا أنّ وكالات الاستخبارات الغربية كانت أكثر استباقية من أساليب عملها العادية، حيث أكدت أنه في غياب عمل عدائي حقيقي من أوكرانيا أو حلفائها، فإن الشرارة التي تحتاج إليها روسيا لتبرير الغزو سوف تصنع بكل الأحوال. وقد سمى رئيس الوزراء البريطاني صراحة قصف روضة أطفال، الأسبوع الماضي، الذي لم يسفر لحسن الحظ عن وفيات، على أنه هجوم بـ “العلم الزائف".

من جهتها أكدت وزيرة الخارجية الألمانية، أنالينا بربوك، أنها تتوقع عملية روسية داخل أوكرانيا، تشبه الانقلاب كسيناريو “العلم الزائف"، فبرأيها هو السيناريو الأكثر ترجيحاً من الغزو الكامل، ولمحت أن سيناريو الغزو الكامل ليس مستبعداً، ولكن الأكثر ترجيحاً هو عملية "العلم الزائف" أو هجوم إلكتروني واسع على أوكرانيا، وهو الأكثر خوفاً برأيها.

من جهة أخرى، قال مسؤولون غربيون إن حجم المعلومات المضللة الروسية التي تسعى الى تأطير أوكرانيا على أنها تهديد لتبرير عمل عسكري من قبل روسيا قد تضاعف خلال الأسبوع الماضي. حيث كشفت ليز تروس، وزيرة الخارجية البريطانية، أن هناك زيادة مضاعفة في عدد الرسائل المزيفة والادّعاءات الروسية، ذلك خلال تصريحات أدلت بها في مؤتمر أمني في ميونيخ يوم السبت.

من الواضح أنّ الحاجة إلى وقوع حادث لتبرير حملة أوسع نطاقاً مهمة، ولكنها ليست ضرورية بالضرورة. إن التصعيد في القرار الذي اتخذه الروسي بوتين بالاعتراف بجمهوريتي دونيستك ولوهانسك الانفصاليتين، وإرسال "قوات حفظ سلام"، يمكن أن يحدث، أو من المرجح أن يحدث، بغض النظر عن ذلك. والحقيقة هي أن "الحقيقة" أصبحت مفهوماً ذاتياً مفيداً بقدر ما هو من منظور أنواع مختلفة من القادة الذين يستجيبون لمختلف النظم السياسية. ومن وجهة نظر غربية، فإن بناء القوات وتكديسها ودخولها الحتمي إلى أوكرانيا يصفع العدوان الروسي. ومن ناحية أخرى، فسّر بوتين القرار بأنه رد على الغرب وهو يحمل "سكيناً على رقبتهم"، محاولاً تحويل أوكرانيا إلى نظام عميل.

إذاً، هي نقطة اللاعودة، فالصراع بدا واضحاً للجميع، ومع ذلك هذا لا يعني أن تكتيك "العلم الزائف" لم يعد مفيداً أو أنه شيء سنرى المزيد منه. ويبدو أن بوتين مستعد للاستيلاء على أجزاء من شرق أوكرانيا، إلا أن المخاوف هي ما مدى تطوير ذلك، وعن نية بوتين التوجه إلى القسم الغربي أم لا. ذلك سيدفع مراكز الاستخبارات الدولية، ومنها الروسية، لتبث أخباراً أكثر زيفاً، وبالتالي نبقى نحن متأهبين للمزيد من تلك الهجمات القادمة بوسائل وطرق جديدة ستعتمدها الأنظمة العالمية بالجغرافيا السياسية في العصر الحديث.

ليفانت - شيار خليل

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!